فصل: تفسير الآيات رقم (128- 140)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 92‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏83‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏84‏)‏ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏85‏)‏ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏86‏)‏ وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏87‏)‏ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏88‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏90‏)‏ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏91‏)‏ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا‏}‏ إشارة إلى جميع ما احتج به إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله ‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل‏}‏ إلى قوله ‏{‏وَهُمْ مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏{‏ءاتيناها إبراهيم على قَوْمِهِ‏}‏ وهو خبر بعد خبر ‏{‏نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاءُ‏}‏ في العلم والحكمة وبالتنوين كوفي وفيه نقض قول المعتزلة في الأصلح ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ‏}‏ بالرفع ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بالأهل‏.‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ‏}‏ لإبراهيم ‏{‏إسحاق وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا‏}‏ أي كلهم وانتصب ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ب ‏{‏هَدَيْنَا‏}‏ ‏{‏وَنُوحاً هَدَيْنَا‏}‏ أي وهدينا نوحاً ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل إبراهيم ‏{‏وَمِن ذُرّيَّتِهِ‏}‏ الضمير لنوح أو لإبراهيم، والأوّل أظهر لأن يونس ولوطاً لم يكونا من ذرية إبراهيم ‏{‏دَاوُدَ وسليمان وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وهارون‏}‏ والتقدير‏:‏ وهدينا من ذريته هؤلاء ‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين‏}‏ ونجزي المحسنين جزاء مثل ذلك، فالكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ‏{‏وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ‏}‏ أي كلهم ‏{‏مِّنَ الصالحين‏}‏ وذكر عيسى معهم دليل على أن النسب يثبت من قبل الأم أيضاً لأنه جعله من ذرية نوح عليه السلام وهو لا يتصل به إلا بالأم، وبذا أجيب الحجاج حين أنكر أن يكون بنو فاطمة أولاد النبي عليه السلام ‏{‏وإسماعيل واليسع‏}‏ ‏{‏والليسع‏}‏ حيث كان بلامين‏:‏ حمزة وعلي ‏{‏واليسع وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين‏}‏ بالنبوة والرسالة ‏{‏وَمِنْ ءَابَائِهِمْ‏}‏ في موضع النصب عطفاً على ‏{‏كُلاَّ‏}‏ أي وفضلنا بعض آبائهم ‏{‏وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ * ذلك‏}‏ أي ما دان به هؤلاء المذكورون ‏{‏هُدَى الله‏}‏ دين الله ‏{‏يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ فيه نقض قول المعتزلة لأنهم يقولون إن الله شاء هداية الخلق كلهم لكنهم لم يهتدوا ‏{‏وَلَوْ أَشْرَكُواْ‏}‏ مع فضلهم وتقدمهم وما رفع لهم من الدرجات العلى ‏{‏لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ لبطلت أعمالهم كما قال ‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏

أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب‏}‏ يريد الجنس ‏{‏والحكم‏}‏ والحكمة أو فهم الكتاب ‏{‏والنبوة‏}‏ وهي أعلى مراتب البشر ‏{‏فَإِن يَكْفُرْ بِهَا‏}‏ بالكتاب والحكم والنبوة أو بآيات القرآن ‏{‏هؤلاءآء‏}‏ أي أهل مكة ‏{‏فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً‏}‏ هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم بدليل قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده‏}‏ أو أصحاب النبي عليه السلام، أوكل من آمن به أو العجم‏.‏ ومعنى توكيلهم بها أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه‏.‏ والباء في ‏{‏لَّيْسُواْ بِهَا‏}‏ صلة ‏{‏كافرين‏}‏ وفي ‏{‏بكافرين‏}‏ لتأكيد النفي ‏{‏أولئك الذين هَدَى الله‏}‏ أي الأنبياء الذين مر ذكرهم ‏{‏فَبِهُدَاهُمُ اقتده‏}‏ فاختص هداهم بالاقتداء ولا تقتد إلا بهم، وهذا معنى تقديم المفعول‏.‏

والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع فهي مختلفة، والهاء في ‏{‏اقتده‏}‏ للوقف تسقط في الوصل، واستحسن إيثار الوقف لثبات الهاء في المصحف ويحذفها حمزة‏.‏ وعلى في الوصل ويختلسها‏:‏ شامي‏.‏ ‏{‏قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ‏}‏ على الوحي أو على تبليغ الرسالة والدعاء إلى التوحيد ‏{‏أَجْراً‏}‏ جعلاً‏.‏ وفيه دليل على أن أخذ الأجر على تعليم القرآن ورواية الحديث لا يجوز ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى للعالمين‏}‏ ما القرآن إلا عظة للجن والإنس ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَيْءٍ‏}‏ أي ما عرفوه حق معرفته في الرحمة على عباده حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم، وذلك من أعظم رحمته ‏{‏وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏ رُوي أن جماعة من اليهود منهم مالك بن الصيف كانوا يجادلون النبي عليه السلام فقال النبي عليه السلام له «أليس في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين» قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ «فأنت الحبر السمين» فغضب وقال‏:‏ ما أنزل الله على بشر من شيء‏.‏ و‏{‏حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ منصوب نصب المصدر‏.‏

‏{‏قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذى جَاء بِهِ موسى نُوراً‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏بِهِ‏}‏ أو ‏{‏مِّنَ الكتاب‏}‏ ‏{‏وَهُدًى لّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قراطيس تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً‏}‏ مما فيه نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعضوه وجعلوه قراطيس مقطعة وورقات مفرقة ليتمكنوا مما راموا من الإبداء والإخفاء‏.‏ وبالياء في الثلاثة‏:‏ مكي وأبو عمرو ‏{‏وَعُلِّمْتُمْ‏}‏ يا أهل الكتاب بالكتاب ‏{‏مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَاؤُكُمْ‏}‏ من أمور دينكم ودنياكم ‏{‏قُلِ الله‏}‏ جواب أي أنزله الله فإنهم لا يقدرون أن يناكروك ‏{‏ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ‏}‏ في باطلهم الذي يخوضون فيه ‏{‏يَلْعَبُونَ‏}‏ حال من ‏{‏ذَرْهُمْ‏}‏ أو ‏{‏مِنْ خَوْضِهِمْ‏}‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه‏}‏ على نبينا عليه السلام ‏{‏مُّبَارَكٌ‏}‏ كثير المنافع والفوائد ‏{‏مُّصَدِّقُ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ من الكتب ‏{‏وَلِتُنذِرَ‏}‏ وبالياء‏:‏ أبو بكر، أي الكتاب وهو معطوف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل‏:‏ أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار ‏{‏أُمَّ القرى‏}‏ مكة، وسميت أم القرى لأنها سرة الأرض وقبلة أهل القرى وأعظمها شأناً ولأن الناس يؤمونها ‏{‏وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ أهل الشرق والغرب ‏{‏والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة‏}‏ يصدقون بالعاقبة ويخافونها ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ بهذا الكتاب فأصل الدين خوف العاقبة فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن ‏{‏وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏}‏ خصت الصلاة بالذكر لأنها علم الإيمان وعماد الدين فمن حافظ عليها يحافظ على أخواتها ظاهراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 103‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏93‏)‏ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏94‏)‏ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏95‏)‏ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏96‏)‏ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏97‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ‏(‏98‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏99‏)‏ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏100‏)‏ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏102‏)‏ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً‏}‏ هو مالك بن الصيف ‏{‏أَوْ قَالَ أُوْحِي إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ‏}‏ هو مسيلمة الكذاب ‏{‏وَمَن قَالَ‏}‏ في موضع جر عطف على ‏{‏مَنِ افترى‏}‏ أي وممن قال ‏{‏سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله‏}‏ أي سأقول وأملي هو عبد الله بن سعد ابن أبي سرح كاتب الوحي، وقد أملى النبي عليه السلام عليه ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان‏}‏ إلى ‏{‏خَلْقاً ءاخَرَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏ فجرى على لسانه ‏{‏فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏‏.‏ فقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ اكتبها فكذلك نزلت ‏"‏ فشك وقال‏:‏ إن كان محمد صادقاً فقد أوحي إلي كما أوحي إليه، وإن كان كاذباً فقد قلت كما قال، فارتد ولحق بمكة‏.‏ أو النضر ابن الحرث كان يقول‏:‏ والطاحنات طحناً فالعاجنات عجناً فالخابزات خبزاً كأنه يعارض ‏{‏وَلَوْ ترى‏}‏ جوابه محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً ‏{‏إِذِ الظالمون‏}‏ يريد الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة فتكون اللام للعهد، ويجوز أن تكون للجنس فيدخل هؤلاء لاشتماله ‏{‏فِي غَمْرَاتِ الموت‏}‏ شدائده وسكراته ‏{‏والملائكة بَاسِطُوآ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ‏}‏ أي يبسطون إليهم أيديهم يقولون‏:‏ هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم، وهذه عبارة عن التشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ‏{‏اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون‏}‏ أرادوا وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع‏.‏ والهون‏:‏ الهوان الشديد وإضافة العذاب إليه كقولك «رجل سوء» يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه ‏{‏بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق‏}‏ من أن له شريكاً وصاحبة وولداً‏.‏ ‏{‏غَيْرَ الحق‏}‏ مفعول ‏{‏تَقُولُونَ‏}‏ أو وصف لمصدر محذوف أي قولاً غير الحق ‏{‏وَكُنتُمْ عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ فلا تؤمنون بها ‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا‏}‏ للحساب والجزاء ‏{‏فرادى‏}‏ منفردين بلا مال ولا معين وهو جمع فريد كأسير وأسارى ‏{‏كَمَا خلقناكم‏}‏ في محل النصب صفة لمصدر ‏{‏جِئْتُمُونَا‏}‏ أي مجيئاً مثل ما خلقناكم ‏{‏أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ على الهيئات التي ولدتم عليها في الانفراد ‏{‏وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم‏}‏ ملكناكم ‏{‏وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ‏}‏ ولم تحتملوا منه نقيراً ‏{‏وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شركاوءا‏}‏ في استعبادكم ‏{‏لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ‏}‏ بينكم وصلكم عن الزجاج والبين‏:‏ الوصل والهجر قال

فوالله لولا البين لم يكن الهوى *** ولولا الهوى ما حن للبين الف

بَيْنِكُمْ‏}‏ مدني وعلي وحفص أي وقع التقطع بينكم ‏{‏وَضَلَّ عَنكُم‏}‏ وضاع وبطل ‏{‏مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ أنها شفعاؤكم عند الله‏.‏

‏{‏إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى‏}‏ بالنبات والشجر أي فلق الحب عن السنبلة والنواة عن النخلة، والفلق‏:‏ الشق، وعن مجاهد‏:‏ أراد الشقين اللذين في النواة والحنطة ‏{‏يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت‏}‏ النبات الغض النامي من الحب اليابس ‏{‏وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي‏}‏ الحب اليابس من النبات النامي، أو الإنسان من النطفة والنطفة من الإنسان، أو المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، فاحتج الله عليهم بما يشاهدونه من خلقه لأنهم أنكروا البعث فأعلمهم أنه الذي خلق هذه الأشياء فهو يقدر على بعثهم‏.‏

وإنما قال ‏{‏وَمُخْرِجُ الميت‏}‏ بلفظ اسم الفاعل لأنه معطوف على فالق الحب لا على الفعل ‏{‏وَيُخْرِجُ الحي مِنَ الميت‏}‏ موقعه موقع الجملة المبينة لقوله ‏{‏فَالِقُ الحب والنوى‏}‏ لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت لأن النامي في حكم الحيوان دليله قوله‏:‏ ‏{‏ويحيي الأرض بعد موتها‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 19‏]‏‏.‏ ‏{‏ذلكم الله‏}‏ ذلكم المحيي والمميت هو الله الذي تحق له الربوبية لا الأصنام ‏{‏فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏ فكيف تصرفون عنه وعن تواليه إلى غيره بعد وضوح الأمر بما ذكرنا ‏{‏فَالِقُ الإصباح‏}‏ هو مصدر سمي به الصبح أي شاق عمود الصبح عن سواد الليل أو خالق نور النهار ‏{‏وَجَعَلَ اليل‏}‏ ‏{‏وَجَعَلَ اليل‏}‏ كوفي لأن اسم الفاعل الذي قبله بمعنى المضي، فلما كان فالق بمعنى فلق عطف عليه ‏{‏جَعَلَ‏}‏ لتوافقهما معنى ‏{‏سَكَناً‏}‏ مسكوناً فيه من قوله ‏{‏لِتَسْكُنُواْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 67‏]‏ أي ليسكن فيه الخلق عن كد المعيشة إلى نوم الغفلة، أو عن وحشة الخلق إلى الأنس بالحق ‏{‏والشمس والقمر‏}‏ انتصبا بإضمار فعل يدل عليه جاعل الليل أي وجعل الشمس والقمر ‏{‏حُسْبَاناً‏}‏ أي جعلهما على حسبان لأن حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما‏.‏ والحسبان بالضم مصدر حسب كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى جعلهما حسباناً أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم ‏{‏تَقْدِيرُ العزيز‏}‏ الذي قهرهما وسخرهما ‏{‏العليم‏}‏ بتدبيرهما وتدويرهما ‏{‏وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم‏}‏ خلقها ‏{‏لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظلمات البر والبحر‏}‏ أي في ظلمات الليل بالبر وبالبحر، وأضافها إليهما لملابستها لهما أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات ‏{‏قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ قد بينا الآيات الدالة على التوحيد لقوم يعلمون‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مّن نَّفْسٍ واحدة‏}‏ هي آدم عليه السلام ‏{‏فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ‏}‏ ‏{‏فَمُسْتَقَر‏}‏ بالكسر‏:‏ مكي وبصري‏.‏ فمن فتح القاف كان المستودع اسم مكان مثله، ومن كسرها كان اسم فاعل والمستودع اسم مفعول يعني فلكم مستقر في الرحم ومستودع في الصلب، أو مستقر فوق الأرض ومستودع تحتها، أو فمنكم مستقر ومنكم مستودع ‏{‏قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ‏}‏ وإنما قيل ‏{‏يَعْلَمُونَ‏}‏ ثم ‏{‏يَفْقَهُونَ‏}‏ هنا لأن الدلالة ثمّ أظهر وهنا أدق، لأن إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة أدق فكان ذكر الفقه الدال على تدقيق النظر أوفق ‏{‏وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً‏}‏ من السحاب مطراً ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ‏}‏ بالماء ‏{‏نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ نبت كل صنف من أصناف النامي أي السبب وهو الماء واحد والمسببات صنوف مختلفة ‏{‏فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ‏}‏ من النبات ‏{‏خَضِْرًا‏}‏ أي شيئاً غضاً أخضر‏.‏

يقال أخضر وخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة ‏{‏نُّخْرِجُ مِنْهُ‏}‏ من الخضر ‏{‏حَبّاً مُّتَرَاكِباً‏}‏ وهو السنبل الذي تراكب حبه ‏{‏وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قنوان‏}‏ هو رفع بالابتداء ‏{‏وَمِنَ النخل‏}‏ خبره و‏{‏مِن طَلْعِهَا‏}‏ بدل منه كأنه قيل‏:‏ وحاصلة من طلع النخل قنوان وهو جمع قنو وهو العذق نظيره «صنو» و«صنوان»‏.‏ ‏{‏دَانِيَةٌ‏}‏ من المجتني لانحنائها بثقل حملها أو لقصر ساقها، وفيه اكتفاء أي وغير دانية لطولها كقوله ‏{‏سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏ ‏{‏وجنات‏}‏ بالنصب عطفاً على ‏{‏نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ‏}‏ أي وأخرجنا به جنات ‏{‏مِّنْ أعناب‏}‏ أي مع النخل وكذا ‏{‏والزيتون والرمان‏}‏ ‏{‏وجنات‏}‏ بالرفع‏:‏ الأعشى أي وثم جنات من أعناب أي مع النخل ‏{‏مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه‏}‏ يقال اشتبه الشيئان وتشابها نحو استويا وتساويا، والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً وتقديره‏:‏ والزيتون متشابهاً وغير متشابه، والرمان كذلك يعني بعضه متشابه وبعضه غير متشابه في القدر واللون والطعم ‏{‏انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ‏}‏ إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضعيفاً لا ينتفع به ‏{‏وَيَنْعِهِ‏}‏ ونضجه أي انظروا إلى حال نضجه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع، نظر اعتبار واستدلال على قدرة مقدره ومدبره وناقله من حال إلى حال‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذلكم لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏{‏ثَمَرِهِ‏}‏ وكذا ما بعده‏:‏ حمزة وعلي جمع ثمار فهو جمع الجمع يقال‏:‏ ثمرة وثمر وثمار وثمر‏.‏

‏{‏وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاءَ الجن‏}‏ إن جعلت ‏{‏لِلَّهِ شُرَكَاءَ‏}‏ مفعولي ‏{‏جَعَلُواْ‏}‏ كان ‏{‏الجن‏}‏ بدلاً من ‏{‏شُرَكَاء‏}‏ وإلا كان ‏{‏شُرَكَاء الجن‏}‏ مفعولين قدم ثانيهما على الأوّل، وفائدة التقديم استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكاً أو جنياً أو غير ذلك، والمعنى أنهم أطاعوا الجن فيما سولت لهم من شركهم فجعلوهم شركاء لله ‏{‏وَخَلَقَهُمْ‏}‏ أي وقد خلق الجن فكيف يكون المخلوق شريكاً لخالقه‏؟‏ والجملة حال، أو وخلق الجاعلين لله شركاء فكيف يعبدون غيره‏؟‏ ‏{‏وَخَرَقُواْ لَهُ‏}‏ أي اختلقوا يقال‏:‏ خلق الإفك وخرقه واختلقه واخترقه بمعنى، أو هو من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا له ‏{‏بَنْيَنَ‏}‏ كقول أهل الكتابين في المسيح وعزير ‏{‏وَبَنَاتٍ‏}‏ كقول بعض العرب في الملائكة‏.‏ ‏{‏وَخَرَقُواْ‏}‏ بالتشديد للتكثير‏:‏ مدني لقوله ‏{‏بَنِينَ وَبَنَاتٍ‏}‏ ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوا من خطأ أو صواب ولكن رمياً بقول عن جهالة، وهو حال من فاعل ‏{‏خرقوا‏}‏ أي جاهلين بما قالوا ‏{‏سبحانه وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ من الشريك والولد ‏{‏بَدِيعُ السماوات والأرض‏}‏ يقال بدُع الشيء فهو بديع وهو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها يعني بديع سمواته وأرضه، أو هو بمعنى المبدع أي مبدعها وهو خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره ‏{‏أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ أو هو فاعل ‏{‏تَعَالَى‏}‏ ‏{‏وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة‏}‏ أي من أين يكون له ولد والولد لا يكون إلا من صاحبة ولا صاحبة له، ولأن الولادة من صفات الأجسام ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون له ولد ‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ أي ما من شيء إلا وهو خالقه وعالمه ومن كان كذلك كان غنياً عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج ‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة إلى الوصوف بما تقدم من الصفات وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة وهي ‏{‏الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ وقوله ‏{‏فاعبدوه‏}‏ مسبب عن مضمون الجملة أي من استجمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ‏}‏ أي هو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأَرزاق والآجال رقيب على الأعمال ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار‏}‏ لا تحيط به أو أبصار من سبق ذكرهم‏.‏

وتشبث المعتزلة بهذه الآية لا يستتب لأن المنفي هو الإدراك لا الرؤية، والإدراك هو الوقوف على جوانب المرئي وحدوده، وما يستحيل عليه الحدود والجهات يستحيل إدراكه لا رؤيته، فنزل الإدراك من الرؤية منزلة الإحاطة من العلم، ونفى الإحاطة التي تقتضي الوقوف على الجوانب والحدود لا يقتضي نفي العلم به فهكذا هذا، على أن مورد الآية وهو التمدح يوجب ثبوت الرؤية إذ نفي إدراك ما تستحيل رؤيته لا تمدح فيه لأن كل ما لا يرى لا يدرك، وإنما التمدح بنفي الإدراك مع تحقق الرؤية إذ انتفاؤه مع تحقق الرؤية دليل ارتفاع نقيصة التناهي والحدود عن الذات، فكانت الآية حجة لنا عليهم‏.‏ ولو أمعنوا النظر فيها لاغتنموا التقصي عن عهدتها، ومن ينفي الرؤية يلزمه نفي أنه معلوم موجود وإلا فكما يعلم موجوداً بلا كيفية وجهة بخلاف كل موجود لم يجز أن يرى بلا كيفية وجهة بخلاف كل مرئي، وهذا لأن الرؤية تحقق الشيء بالبصر كما هو، فإن كان المرئي في الجهة يرى فيها وإن كان لا في الجهة يرى لا فيها ‏{‏وَهُوَ‏}‏ للطف إدراكه ‏{‏يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف‏}‏ أي العالم بدقائق الأمور ومشكلاتها ‏{‏الخبير‏}‏ العليم بظواهر الأشياء وخفياتها وهو من قبيل اللف والنشر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 114‏]‏

‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏104‏)‏ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏105‏)‏ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏106‏)‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏107‏)‏ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏108‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏109‏)‏ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏110‏)‏ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ‏(‏111‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏112‏)‏ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ‏(‏113‏)‏ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ‏}‏ البصيرة نور القلب الذي به يستبصر القلب كما أن البصر نور العين الذي به تبصر أي جاءكم من الوحي والتنبيه ما هو للقلوب كالبصائر ‏{‏فَمَنْ أَبْصَرَ‏}‏ الحق وآمن ‏{‏فَلِنَفْسِهِ‏}‏ أبصر وإياها نفع ‏{‏وَمَنْ عَمِيَ‏}‏ عنه وضل ‏{‏فَعَلَيْهَا‏}‏ فعلى نفسه عمى وإياها ضر بالعمى ‏{‏وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ‏}‏ أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم‏.‏ الكاف في ‏{‏وكذلك نُصَرّفُ الآيات‏}‏ في موضع نصب صفة المصدر المحذوف أي نصرف الآيات تصريفاً مثل ما تلونا عليك ‏{‏وَلِيَقُولُواْ‏}‏ جوابه محذوف أي وليقولوا ‏{‏دَرَسْتَ‏}‏ نصرفها ومعنى ‏{‏دَرَسْتَ‏}‏ قرأت كتب أهل الكتاب‏.‏ ‏{‏دارست‏}‏ مكي وأبو عمرو أي دارست أهل الكتاب‏.‏ ‏{‏دَرَسْتَ‏}‏ شامي أي قدمت هذه الآية ومضت كما ‏{‏قالوا أساطير الأولين‏}‏ ‏{‏وَلِنُبَيِّنَهُ‏}‏ أي القرآن وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوماً أو الآيات لأنها في معنى القرآن‏.‏ قيل‏:‏ اللام الثانية حقيقة، والأولى لام العاقبة والصيرورة أي لتصير عاقبة أمرهم إلى أن يقولوا درست وهو كقوله ‏{‏فالتقطه ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ وهم لم يلتقطوه للعداوة وإنما التقطوه ليصير لهم قرة عين ولكن صارت عاقبة أمرهم إلى العداوة، فكذلك الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا درست ولكن حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين فشبه به‏.‏ وقيل‏:‏ ليقولوا كما قيل لنبينه وعندنا ليس كذلك لما عرف ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ الحق من الباطل ‏{‏اتبع مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ‏}‏ ولا تتبع أهواءهم ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ اعتراض أكد به إيجاب اتباع الوحي لا محل له من الإعراب أو حال ‏{‏مِن رَبِّكَ‏}‏ مؤكدة ‏{‏وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين‏}‏ في الحال إلى أن يرد الأمر بالقتال ‏{‏وَلَوْ شَاءَ الله‏}‏ أي إيمانهم فالمفعول محذوف ‏{‏مَا أَشْرَكُواْ‏}‏ بيّن أنهم لا يشركون على خلاف مشيئة الله ولو علم منهم اختيار الإيمان لهداهم إليه ولكن علم منهم اختيار الشرك فشاء شركهم فأشركوا بمشيئته ‏{‏وَمَا جعلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً‏}‏ مراعياً لأعمالهم مأخوذاً بإجرامهم ‏{‏وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ‏}‏ بمسلط‏.‏

وكان المسلمون يسبون آلهتهم فنهوا عنه لئلا يكون سبهم سبباً لسب الله بقوله‏:‏

‏{‏وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله‏}‏ منصوب على جواب النهي ‏{‏عَدْوَاً‏}‏ ظلماً وعدواناً ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك التزيين ‏{‏زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ‏}‏ من أمم الكفار ‏{‏عَمَلَهُمْ‏}‏ وهو كقوله ‏{‏أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏

‏[‏فاطر‏:‏ 8‏]‏ وهو حجة لنا في الأصلح ‏{‏ثُمَّ إلى رَبّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ‏}‏ مصيرهم ‏{‏فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ فيخبرهم بما عملوا ويجزيهم عليه ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم‏}‏ جهد مصدر وقع موقع الحال أي جاهدين في الإتيان بأوكد الأيمان ‏{‏لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَةٌ‏}‏ من مقترحاتهم ‏{‏لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله‏}‏ وهو قادر عليها لا عندي فكيف آتيكم بها ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ‏}‏ وما يدريكم ‏{‏إنَّهَا‏}‏ أن الآية المقترحة ‏{‏إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ بها يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تعلمون ذلك، وكان المؤمنون يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها فقال الله تعالى‏:‏ وما يدريكم أنهم لا يؤمنون على معنى إنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون ‏{‏أَنَّهَا‏}‏ بالكسر‏:‏ مكي وبصري وأبو بكر على أن الكلام تم قبله أي وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال‏:‏ إنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة‏.‏ ومنهم من جعل «لا» مزيدة في قراءة الفتح كقوله ‏{‏وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 95‏]‏‏.‏ ‏{‏لاَ تُؤْمِنُونَ‏}‏ شامي وحمزة‏.‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ‏}‏ عن قبول الحق ‏{‏وأبصارهم‏}‏ عن رؤية الحق عند نزول الآية التي اقترحوها فلا يؤمنون بها‏.‏ قيل‏:‏ هو عطف على ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ داخل في حكم ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ‏}‏ أي وما يشعركم أنهم لا يؤمنون وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم وأبصارهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق ‏{‏كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ كما كانوا عند نزول آياتنا أولا لا يؤمنون بها ‏{‏وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ قيل‏:‏ وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم يعمهون يتحيرون‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة‏}‏ كما قالوا‏:‏ لولا أنزل علينا الملائكة ‏{‏وَكَلَّمَهُمُ الموتى‏}‏ كما قالوا فأتوا بآبائنا ‏{‏وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ‏}‏ جمعنا ‏{‏كُلَّ شَيْء قُبُلاً‏}‏ كفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا جمع قبيل وهو الكفيل ‏{‏قُبُلاً‏}‏ مدني وشامي أي عياناً وكلاهما نصب على الحال ‏{‏مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ إيمانهم فيؤمنوا وهذا جواب لقول المؤمنين لعلهم يؤمنون بنزول الآية ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ‏}‏ أي هؤلاء لا يؤمنون إذا جاءتهم الآية المقترحة‏.‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِيّ عَدُوّاً‏}‏ وكما جعلنا لك أعداء من المشركين جعلنا لمن تقدمك من الأنبياء أعداء لما فيه من الابتلاء الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر وانتصب ‏{‏شياطين الإنس والجن‏}‏ على البدل من ‏{‏عَدُوّا‏}‏ أو على أنه من المفعول الأول و‏{‏عَدُوّا‏}‏ مفعول ثانٍ ‏{‏يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ‏}‏ يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس، وكذلك بعض الجن إلى بعض، وبعض الإنس إلى بعض، وعن مالك بن دينار‏:‏ إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن لأني إذا تعوذت بالله ذهب شيطان الجن عني وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً‏.‏

وقال عليه السلام «قرناء السوء شر من شياطين الجن» ‏{‏زُخْرُفَ القول‏}‏ ما زينوه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ‏{‏غُرُوراً‏}‏ خدعاً وأخذاً على غرة وهو مفعول له ‏{‏وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ‏}‏ أي الإيحاء يعني ولو شاء الله لمنع الشياطين من الوسوسة ولكنه امتحن بما يعلم أنه أجزل في الثواب ‏{‏فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ‏}‏ عليك وعلى الله فإن الله يخزيهم وينصرك ويجزيهم ‏{‏وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة‏}‏ ولتميل إلى زخرف القول قلوب الكفار وهي معطوفة على ‏{‏غُرُوراً‏}‏ أي ليغروا ولتصغي إليه ‏{‏وَلِيَرْضَوْهُ‏}‏ لأنفسهم ‏{‏وَلِيَقْتَرِفُواْ مَاهُم مُّقْتَرِفُونَ‏}‏ من الآثام ‏{‏أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً‏}‏ أي قل يا محمد أفغير الله أطلب حاكماً يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل ‏{‏وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب‏}‏ المعجز ‏{‏مُفَصَّلاً‏}‏ حال من الكتاب أي مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء‏.‏ ثم عضد الدلالة على أن القرآن حق بعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه ما عندهم وموافقته له بقوله ‏{‏والذين ءاتيناهم الكتاب‏}‏ أي عبد الله بن سلام وأصحابه ‏{‏يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ‏}‏ شامي وحفص ‏{‏مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين‏}‏ الشاكين فيه أيها السامع، أو فلا تكونن من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق ولا يَرِبْكَ جحود أكثرهم وكفرهم به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115- 127‏]‏

‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏115‏)‏ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏116‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏117‏)‏ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ‏(‏119‏)‏ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ‏(‏120‏)‏ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ‏(‏121‏)‏ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏122‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏123‏)‏ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ‏(‏124‏)‏ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏125‏)‏ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ‏}‏ أي ما تكلم به‏.‏ ‏{‏كلمات رَبّكَ‏}‏ حجازي وشامي وأبو عمرو أي تم كل ما أخبر به وأمر ونهي ووعد وأوعد ‏{‏صِدْقاً‏}‏ في وعده ووعيده ‏{‏وَعَدْلاً‏}‏ في أمره ونهيه‏.‏ وانتصبا على التمييز أو على الحال ‏{‏لاَ مُبَدّلَ لكلماته‏}‏ لا أحد يبدل شيئاً من ذلك ‏{‏وَهُوَ السميع‏}‏ لإقرار من أقر ‏{‏العليم‏}‏ بإصرار من أصر أو السميع لما يقولون العليم بما يضمرون‏.‏

‏{‏وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض‏}‏ أي الكفار لأنهم الأكثرون ‏{‏يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ دينه ‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن‏}‏ وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق فهم يقلدونهم ‏{‏وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ‏}‏ يكذبون في أن الله حرم عليهم كذا وأحل لهم كذا ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين‏}‏ أي هو يعلم الكفار والمؤمنين‏.‏ من رفع بالابتداء ولفظها لفظ الاستفهام والخبر ‏{‏يَضِلُّ‏}‏ وموضع الجملة نصب ب «يعلم» المقدر لا ب ‏{‏أَعْلَمُ‏}‏ لأن أفعل لا يعمل في الاسم الظاهر النصب ويعمل الجر‏.‏ وقيل‏:‏ تقديره أعلم بمن يضل بدليل ظهور الباء بعده في بالمهتدين ‏{‏فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ إِن كُنتُم بئاياته مُّؤْمِنِينَ‏}‏ هو مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم‏.‏ فقيل للمسلمين‏:‏ إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه خاصة أي على ذبحه دون ما ذكر عليه اسم غيره من آلهتهم أو مات حتف أنفه ‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ‏}‏ «ما» استفهام في موضع رفع بالابتداء و‏{‏لَكُمْ‏}‏ الخبر أي وأي غرض لكم في أن لا تأكلوا ‏{‏مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم‏}‏ بين لكم ‏{‏مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ مما لم يحرم بقوله ‏{‏حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ ‏{‏فَصْلٌ‏}‏ و‏{‏حَرَّمَ‏}‏ كوفي غير حفص وبفتحهما مدني وحفص وبضمهما غيرهم ‏{‏إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ‏}‏ مما حرم عليكم فإنه حلال لكم في حال الضرورة أي شدة المجاعة إلى أكله ‏{‏وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ‏}‏ ‏{‏ليضلون‏}‏ كوفي ‏{‏بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ أي يضلون فيحرمون ويحللون بأهوائهم وشهواتهم من غير تعلق بشريعة ‏{‏إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين‏}‏ بالمتجاوزين من الحق إلى الباطل‏.‏

‏{‏وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ‏}‏ علانيته وسره أو الزنا في الحوانيت والصديقة في السر أو الشرك الجلي والخفي ‏{‏إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ‏}‏ يكتسبون في الدنيا ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ عند الذبح ‏{‏وَأَنَّهُ‏}‏ وإن أكله ‏{‏لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ‏}‏ ليوسوسون ‏{‏إلى أَوْلِيَائِهِمْ‏}‏ من المشركين ‏{‏ليجادلوكم‏}‏ بقولهم لا تأكلون مما قتله الله وتأكلون مما تذبحون بأيديكم، والآية تحرم متروك التسمية وخصت حالة النسيان بالحديث أو بجعل الناسي ذاكراً تقديراً ‏{‏وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ‏}‏ في استحلال ما حرمه الله ‏{‏إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏}‏ لأن من اتبع غير الله في دينه فقد أشرك به، ومن حق المتدين أن لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه لما في الآية من التشديد العظيم‏.‏

ومن أوّل الآية بالميتة وبما ذكر غير اسم الله عليه لقوله ‏{‏أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ‏}‏ وقال‏:‏ إن الواو في ‏{‏وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ‏}‏ للحال لأن عطف الجملة الاسمية على الفعلية لا يحسن فيكون التقدير‏:‏ ولا تأكلوا منه حال كونه فسقاً والفسق مجمل فبين بقوله ‏{‏أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ‏}‏ فصار التقدير ولا تأكلوا منه حال كونه مهلاً لغير الله به فيكون ما سواه حلالاً بالعمومات المحلة منها قوله ‏{‏قُل لا أَجِدُ‏}‏ أي كافراً فهديناه لأن الإيمان حياة القلوب ‏{‏مَيْتًا‏}‏ مدني ‏{‏وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي الناس‏}‏ مستضيئاً به والمراد به اليقين ‏{‏كَمَن مَّثَلُهُ‏}‏ أي صفته ‏{‏فِي الظلمات‏}‏ أي خابط فيها ‏{‏لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا‏}‏ لا يفارقها ولا يتخلص منها وهو حال‏.‏ قيل‏:‏ المراد بهما حمزة وأبو جهل‏.‏ والأصح أن الآية عامة لكل من هداه الله ولكل من أضله الله، فبين أن مثل المهتدي مثل الميت الذي أحيي وجعل مستضيّئاً يمشي في الناس بنور الحكمة والإيمان، ومثل الكافر مثل من هو في الظلمات التي لا يتخلص منها ‏{‏كذلك‏}‏ أي كما زين للمؤمن إيمانه ‏{‏زُيّنَ للكافرين‏}‏ بتزيين الله تعالى كقوله ‏{‏زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي أعمالهم‏.‏

‏{‏وكذلك‏}‏ أي وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا الناس فيها ‏{‏جَعَلْنَا‏}‏ صيرنا ‏{‏فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا‏}‏ ليتجبروا على الناس فيها ويعملوا بالمعاصي‏.‏ واللام على ظاهرها عند أهل السنة وليست بلام العاقبة، وخص الأكابر وهم الرؤساء لأن ما فيهم من الرياسة والسعة أدعى لهم إلى المكر والكفر من غيرهم، دليله ‏{‏وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 27‏]‏ ثم سلى رسوله عليه السلام ووعد له النصرة بقوله ‏{‏وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ‏}‏ لأن مكرهم يحيق بهم ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ أنه يحيق بهم ‏{‏أكابر‏}‏ مفعول أول والثاني ‏{‏فِي كُلِّ قَرْيَةٍ‏}‏ و‏{‏مُجْرِمِيهَا‏}‏ بدل من ‏{‏أكابر‏}‏ أو الأول ‏{‏مُجْرِمِيهَا‏}‏ والثاني ‏{‏أكابر‏}‏ والتقدير‏:‏ مجرميها أكابر‏.‏

ولما قال أبو جهل‏:‏ زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحي إليه والله لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، نزل ‏{‏وَإِذَا جَآءَتْهُمْ‏}‏ أي الأكابر ‏{‏ءَايَةً‏}‏ معجزة أو آية من القرآن بالإيمان ‏{‏قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله‏}‏ أي نعطي من الآيات مثل ما أعطي الأنبياء فأعلم الله تعالى أنه أعلم بمن يصلح للنبوة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ مكي وحفص ‏{‏رسالاته‏}‏‏:‏ غيرهما ‏{‏حَيْثُ‏}‏ مفعول به والعامل محذوف والتقدير يعلم موضع رسالته‏.‏

‏{‏سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ‏}‏ من أكابرها ‏{‏صَغَارٌ‏}‏ ذل وهو إن ‏{‏عَندَ الله‏}‏ في القيامة ‏{‏وَعَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ في الدارين من القتل والأسر وعذاب النار ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ‏}‏ في الدنيا ‏{‏فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام‏}‏ يوسعه وينور قلبه‏.‏ قال عليه السلام «إذا دخل النور في القلب انشرح وانفتح» قيل وما علامة ذلك قال «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت» ‏{‏وَمَن يُرِدِ‏}‏ أي الله ‏{‏أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً‏}‏ ‏{‏ضَيقاً‏}‏ مكي ‏{‏حَرَجاً‏}‏ ‏{‏حَرِجاً‏}‏ صفة ل ‏{‏ضَيّقاً‏}‏ مدني وأبو بكر بالغافي الضيق ‏{‏حَرَجاً‏}‏ غيرهما وصفاً بالمصدر ‏{‏كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السماء‏}‏ كأنه كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه إذا ضاقت عليه الأرض، فطلب مصعداً في السماء أو كعازب الرأي طائر القلب في الهواء ‏{‏يَصْعَدُ‏}‏ مكي ‏{‏يصّاعد‏}‏ أبو بكر وأصله يتصاعد الباقون ‏{‏إِلَيْهِ يَصّعّد‏}‏ وأصله يتصعد ‏{‏كذلك يَجْعَلُ الله الرجس‏}‏ العذاب في الآخرة واللعنة في الدنيا ‏{‏عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ والآية حجة لنا على المعتزلة في إرادة المعاصي ‏{‏وهذا صراط رَبِّكَ‏}‏ أي طريقه الذي اقتضته الحكمة وسنته في شرح صدر من أراد هدايته وجعله ضيقاً لمن أراد ضلاله ‏{‏مُّسْتَقِيماً‏}‏ عادلاً مطرداً وهو حال مؤكدة ‏{‏قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ يتعظون‏.‏

‏{‏لَهُمْ‏}‏ أي لقوم يذكرون ‏{‏دَارُ السلام‏}‏ دار الله يعني الجنة أضافها إلى نفسه تعظيماً لها، أو دار السلامة من كل آفة وكدر، أو السلام التحية سميت دار السلام لقوله‏:‏ ‏{‏تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ‏{‏إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 26‏]‏ ‏{‏عِندَ رَبِّهِمْ‏}‏ في ضمانة ‏{‏وَهُوَ وَلِيُّهُم‏}‏ محبهم أو ناصرهم على أعدائهم ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ بأعمالهم أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون أو هو ولينا في الدنيا بتوفيق الأعمال وفي العقبى بتحقيق الآمال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 140‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏128‏)‏ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏129‏)‏ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏130‏)‏ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ‏(‏131‏)‏ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏132‏)‏ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ‏(‏133‏)‏ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏134‏)‏ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏135‏)‏ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏136‏)‏ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏137‏)‏ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏138‏)‏ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏139‏)‏ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً‏}‏ وبالياء حفص أي واذكر يوم نحشرهم أو ويوم نحشرهم قلنا ‏{‏جَمِيعًا يامعشر الجن قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس‏}‏ أضللتم منهم كثيراً وجعلتموهم أتباعكم كما تقول استكثر الأمير من الجنود ‏{‏وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس‏}‏ الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم ‏{‏رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ‏}‏ أي انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم في أغوائهم ‏{‏وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا‏}‏ يعنون يوم البعث وهذا الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى، والتكذيب بالبعث وتحسر على حالهم ‏{‏قَالَ النار مَثْوَاكُمْ‏}‏ منزلكم ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ حال والعامل معنى الاضافة كقوله تعالى ‏{‏أَنَّ دَابِرَ هؤلاءآء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 66‏]‏ ف ‏{‏مُّصْبِحِينَ‏}‏ حال من هؤلاء والعامل في الحال معنى الاضافة إذ معناه الممازجة والمضامّة والمثوى ليس بعامل لأن المكان لا يعمل في شيء ‏{‏إِلاَّ مَا شَاءَ الله‏}‏ أي يخلّدون في عذاب النار الأبد كله إلا ما شاء اللّه إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب السعير إلى عذاب الزمهرير ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ‏}‏ فيما يفعل بأوليائه وأعدائه ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بأعمالهم فيجزي كلاً على وفق عمله ‏{‏وكذلك نُوَلّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً‏}‏ نتبع بعضهم بعضاً في النار، أو نسلط بعضهم على بعض أو نجعل بعضهم أولياء بعض ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي، ثم يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ ‏{‏يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ‏}‏ عن الضحاك‏:‏ بعث إلى الجن رسلا منهم كما بعث إلى الإنس رسلاً منهم لأنهم بهم آنس وعليه ظاهر النص، وقال آخرون‏:‏ الرسل من الإنس خاصة وإنما قيل ‏{‏رُسُلٌ مّنكُمْ‏}‏ لأنه لما جمع الثقلين في الخطاب صح ذلك وإن كان من أحدهما كقوله‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 22‏]‏ أو رسلهم رسل نبينا كقوله ‏{‏وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 29‏]‏ ‏{‏يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتي‏}‏ يقرءون كتبي ‏{‏وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذا‏}‏ يعني يوم القيامة ‏{‏قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا‏}‏ بوجوب الحجة علينا وتبليغ الرسل إلينا ‏{‏وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين‏}‏ بالرسل‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك ‏{‏أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون‏}‏ تعليل أي الأمر ما قصصنا عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم على أن «أن» مصدرية، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، والمعنى لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم بسبب ظلم أقدموا عليه أو ظالماً، على أنه لو أهلكهم وهم غافلون لم ينبهوا برسول وكتاب لكان ظالماً وهو متعال عنه ‏{‏وَلِكُلٍّ‏}‏ من المكلفين ‏{‏درجات‏}‏ منازل ‏{‏مّمَّا عَمِلُواْ‏}‏ من جزاء أعمالهم، وبه استدل أبو يوسف ومحمد رحمهما الله على أن للجن الثواب بالطاعة لأنه ذكر عقيب ذكر الثقلين ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏ بساه عنه وبالتاء شامي‏.‏

‏{‏وَرَبُّكَ الغني‏}‏ عن عباده وعن عبادتهم ‏{‏ذُو الرحمة‏}‏ عليهم بالتكليف ليعرِّضهم للمنافع الدائمة ‏{‏إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ‏}‏ أيها الظلمة ‏{‏وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ‏}‏ من الخلق المطيع ‏{‏كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ‏}‏ من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام ‏{‏إِنَّ مَا‏}‏ ما بمعنى الذي ‏{‏تُوعَدُونَ‏}‏ من البعث والحساب والثواب والعقاب ‏{‏لآتٍ‏}‏ خبر «إن» أي لكائن ‏{‏وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ‏}‏ بفائتين رد لقولهم من مات فقد فات‏.‏ المكانة تكون مصدراً يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن، وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة وقوله ‏{‏قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ‏}‏ يحتمل اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، واعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، ويقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله‏:‏ على مكانتك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه ‏{‏إِنّي عامل‏}‏ على مكانتي التي أنا عليها أي اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم وهو أمر تهديد ووعيد، دليله قوله ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار‏}‏ أي فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة، وهذا طريق لطيف في الإنذار ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون‏}‏ أي الكافرون ‏{‏مكاناتكم‏}‏ حيث كان‏:‏ أبو بكر ‏{‏يَكُونَ‏}‏ حمزة وعلي‏.‏ وموضع ‏{‏منْ‏}‏ رفع إذا كان بمعنى «أي» وعلق عنه فعل العلم، أو نصب إذا كان بمعنى الذي ‏{‏وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً‏}‏ أي وللأصنام نصيباً فاكتفى بدلالة قوله تعالى ‏{‏فَقَالُواْ هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَائِنَا‏}‏ ‏{‏يزعمهم‏}‏ علي‏.‏ وكذا ما بعده أي زعموا أنه لله والله لم يأمرهم بذلك ولا شرع لهم تلك القسمة ‏{‏لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله‏}‏ أي لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين ‏{‏وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ‏}‏ من إنفاقهم عليها والإجراء على سدنتها‏.‏ رُوي أنهم كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله وأشياء منهما لآلهتهم، فإذا رأوا ما جعلوا لله زاكياً نامياً رجعوا فجعلوه للأصنام، وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه لها وقالوا‏:‏ إن الله غني، وإنما ذاك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها‏.‏ وفي قوله ‏{‏مِمَّا ذَرَأَ‏}‏ إشارة إلى أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي لأنه هو الذي ذرأه‏.‏

ثم ذم صنيعهم بقوله ‏{‏سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ في إيثار آلهتهم على الله وعملهم على ما لم يشرع لهم‏.‏ وموضع «ما» رفع أي ساء الحكم‏.‏ حكمهم بأو نصب أي ساء حكماً حكمهم‏.‏

‏{‏وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين‏}‏ أي كما زين لهم تجزئة المال زين وأد البنات ‏{‏قَتْلَ‏}‏ هو مفعول زين ‏{‏أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ‏}‏ هو فاعل زين، ‏{‏زُيِّنَ‏}‏ بالضم ‏{‏قَتْلَ‏}‏ بالرفع ‏{‏أولادهم‏}‏ بالنصب ‏{‏شُرَكَائِهِمْ‏}‏ بالجر‏:‏ شامي على إضافة القتل إلى الشركاء أي الشياطين والفصل بينهما بغير الظرف وهو المفعول وتقديره‏:‏ زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم ‏{‏لِيُرْدُوهُمْ‏}‏ ليهلكوهم بالإغواء ‏{‏وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ‏}‏ وليخلطوا عليهم ويشوبوه ودينهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل حتى زلوا عنه إلى الشرك ‏{‏وَلَوْ شَاء الله مَا فَعَلُوهُ‏}‏ وفيه دليل على أن الكائنات كلها بمشيئة الله تعالى ‏{‏فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ‏}‏ وما يفترونه من الإفك، أو وافتراءهم لأن ضرر ذلك الافتراء عليهم لا عليك ولا علينا ‏{‏وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ‏}‏ للأوثان ‏{‏حِجْرٍ‏}‏ حرام فعل بمعنى المفعول كالذبح والطحن ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات، وكانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا ‏{‏لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ‏}‏ يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء، والزعم قول بالظن يشوبه الكذب ‏{‏وأنعام حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا‏}‏ هي البحائر والسوائب والحوامي ‏{‏وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا‏}‏ حالة الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام ‏{‏افتراء عَلَيْهِ‏}‏ هو مفعول له أو حال أي قسموا أنعامهم قسم حجر، وقسم لا يركب، وقسم لا يذكر اسم الله عليها ونسبوا ذلك إلى الله افتراء عليه ‏{‏سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ وعيد ‏{‏وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا‏}‏ كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب‏:‏ ما ولد منها حياً فهو خالص للذكور لا يأكل منه الإناث، وما ولد ميتاً اشترك فيه الذكور والإناث‏.‏ وأنث ‏{‏خَالِصَةٌ‏}‏ وهو خبر «ما» للحمل على المعنى لأن «ما» في معنى الأجنة، وذكر ‏{‏وَمُحَرَّمٌ‏}‏ حملاً على اللفظ أو التاء للمبالغة كنسابة ‏{‏وَإِن يَكُن مَّيْتَةً‏}‏ أي وإن يكن ما في بطونها ميتة‏.‏ ‏{‏وَأَنْ تَكُنْ مَيْتَةً‏}‏ أبو بكر أي وإن تكن الأجنة ميتة، ‏{‏وَإِنْ تَكُنْ مَيْتَةً‏}‏ شامي على «كان» التامة، ‏{‏يَكُن مَّيْتَةً‏}‏ مكي لتقدم الفعل‏.‏ وتذكير الضمير في ‏{‏فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ‏}‏ لأن الميتة اسم لكل ميت ذكر أو أنثى فكأنه قيل‏:‏ وإن يكن ميت فهم فيه شركاء ‏{‏سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ‏}‏ جزاء وصفهم الكذب على الله في التحريم ‏{‏إِنَّهُ حَكِيمٌ‏}‏ في جزائهم ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ باعتقادهم ‏{‏قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم‏}‏ كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر ‏{‏قَتَّلُواْ‏}‏ مكي وشامي ‏{‏سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ لخفة أحلامهم وجهلهم بأن الله هو رازق أولادهم لاهم ‏{‏وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله‏}‏ من البحائر والسوائب وغيرها ‏{‏افتراء عَلَى الله‏}‏ مفعول له ‏{‏قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ‏}‏ إلى الصواب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏141- 147‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏141‏)‏ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏142‏)‏ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏143‏)‏ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏144‏)‏ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏145‏)‏ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏146‏)‏ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذي أَنشَأَ‏}‏ خلق ‏{‏جنات‏}‏ من الكروم ‏{‏معروشات‏}‏ مسموكات مرفوعات ‏{‏وَغَيْرَ معروشات‏}‏ متروكات على وجه الأرض لم تعرش، يقال عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكاً تعطف عليه القضبان ‏{‏والنخل والزرع مُخْتَلِفًا‏}‏ في اللون والطعم والحجم والرائحة، وهو حال مقدرة لأن النخل وقت خروجه لا أكل فيه حتى يكون مختلفاً وهو كقوله ‏{‏فادخلوها خالدين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ ‏{‏أَكُلُهُ‏}‏ ‏{‏أَكْله‏}‏ حجازي وهو ثمره الذي يؤكل، والضمير للنخل، والزرع داخل في حكمه لأنه معطوف عليه، أو لكل واحد ‏{‏والزيتون والرمان متشابها‏}‏ في اللون ‏{‏وَغَيْرَ متشابه‏}‏ في الطعم ‏{‏كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ‏}‏ من ثمر كل واحد، وفائدة ‏{‏إِذَا أَثْمَرَ‏}‏ أن يعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر ولا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك ‏{‏وَءَاتُواْ حَقَّهُ‏}‏ عشره وهو حجة أبي حنيفة رحمه الله في تعميم العشر ‏{‏يَوْمَ حَصَادِهِ‏}‏ بصري وشامي وعاصم، وبكسر الحاء غيرهم‏.‏ وهما لغتان ‏{‏وَلاَ تُسْرِفُواْ‏}‏ بإعطاء الكل وتضييع العيال‏.‏ وقوله ‏{‏كُلُواْ‏}‏ إلى ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين‏}‏ اعتراض ‏{‏وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشًا‏}‏ عطف على ‏{‏جنات‏}‏ أي وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح، أو الحمولة الكبار التي تصلح للحمل والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها ‏{‏كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله‏}‏ أي ما أحل الله لكم منها ولا تحرموها كما في الجاهلية‏}‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏ طرقه في التحليل والتحريم كفعل أهل الجاهلية ‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ فاتهموه على دينكم ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ بدل من ‏{‏حَمُولَةً وَفَرْشًا‏}‏ ‏{‏مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين‏}‏ زوجين اثنين يريد الذكر والأنثى، والواحد إذا كان وحده فهو فرد، وإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منهما زوجاً وهما زوجان بدليل قوله ‏{‏خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 45‏]‏ ويدل عليه قوله ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ ثم فسرها بقوله ‏{‏مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين‏}‏ ‏{‏وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين‏}‏ والضأن والمعز جمع ضائن وماعز كتاجر وتجر‏.‏ وفتح عين المعز‏:‏ مكي وشامي وأبو عمرو وهما لغتان‏.‏

والهمزة في ‏{‏قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين‏}‏ للإنكار‏.‏ والمراد بالذكرين الذكر من الضأن والذكر من المعز، وبالأنثيين الأنثى من الضأن والأنثى من المعز والمعنى إنكار أن يحرم الله من جنسي الغنم ضأنها ومعزها شيئاً من نوعي ذكورها وإناثها ولا مما تحمل الإناث، وذلك أنهم كانوا يحرمون ذكورة الأنعام تارة وإناثها طوراً وأولادها كيفما كانت ذكوراً أو إناثاً أو مختلطة تارة، وكانوا يقولون‏:‏ قد حرمها الله فأنكر ذلك عليهم‏.‏

وانتصب ‏{‏آلذكرين‏}‏ ب ‏{‏حَرَّمَ‏}‏ وكذا ‏{‏أَمِ الأنثيين‏}‏ أي أم حرم الأنثيين وكذا «ما» في ‏{‏أَمَّا اشتملت‏}‏ ‏{‏نَبّئُونِي بِعِلْمٍ‏}‏ أخبروني بأمر معلوم من جهة الله يدل على تحريم ما حرمتم ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في أن الله حرمه‏.‏

‏{‏وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ‏}‏ منهما ‏{‏حَرَّمَ أَمِ الأنثيين‏}‏ منهما ‏{‏أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين‏}‏ أم ما تحمل إناثها ‏{‏أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ‏}‏ «أم» منقطعة أي بل أكنتم شهداء ‏{‏إِذْ وصاكم الله بهذا‏}‏ يعني أم شاهدتم ربكم حين أمركم بهذا التحريم‏.‏ ولما كانوا لا يؤمنون برسول الله وهم يقولون الله حرم هذا الذي نحرمه تهكم بهم في قوله ‏{‏أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ‏}‏ على معنى أعرفتم التوصية به مشاهدين لأنكم لا تؤمنون بالرسل ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ فنسب إليه تحريم ما لم يحرم ‏{‏لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين‏}‏ أي الذين في علمه أنهم يختمون على الكفر‏.‏ ووقع الفاصل بين بعض المعدود وبعضه اعتراضاً غير أجنبي من المعدود، وذلك أن الله تعالى مَنَّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم، فالاعتراض بالاحتجاج على من حرمها يكون تأكيداً للتحليل، والاعتراضات في الكلام لا تساق إلا للتوكيد‏.‏

‏{‏قُل لا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ‏}‏ أي في ذلك الوقت أو في وحي القرآن لأن وحي السنة قد حرم غيره، أو من الأنعام لأن الآية في رد البحيرة وأخواتها‏.‏ وأما الموقوذة والمتردية والنطيحة فمن الميتة، وفيه تنبيه على أن التحريم إنما يثبت بوحي الله وشرعه لا يهوى الأنفس ‏{‏مُحَرَّمًا‏}‏ حيواناً حرم أكله ‏{‏على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ‏}‏ على آكل يأكله ‏{‏إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً‏}‏ إلا أن يكون الشيء المحرم ميتة ‏{‏أَن تَكُونَ‏}‏ مكي وشامي وحمزة ‏{‏مَيْتَةً‏}‏ شامي ‏{‏أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا‏}‏ مصبوباً سائلاً فلا يحرم الدم الذي في اللحم والكبد والطحال ‏{‏أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ‏}‏ نجس ‏{‏أَوْ فِسْقًا‏}‏ عطف على المنصوب قبله‏.‏ وقوله ‏{‏فَإِنَّهُ رِجْسٌ‏}‏ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه ‏{‏أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ‏}‏ منصوب المحل صفة ل ‏{‏فِسْقًا‏}‏ أي رفع الصوت على ذبحه باسم غير الله، وسمي بالفسق لتوغله في باب الفسق ‏{‏فَمَنِ اضطر‏}‏ فمن دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات ‏{‏غَيْرَ بَاغٍ‏}‏ على مضطر مثله تارك لمواساته ‏{‏وَلاَ عَادٍ‏}‏ متجاوز قدر حاجته من تناوله ‏{‏فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ لا يؤاخذه ‏{‏وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ‏}‏ أي ماله أصبع من دابة أو طائر ويدخل فيه الإبل والنعام ‏{‏وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا‏}‏ أي حرمنا عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه وكل شيء منه، ولم يحرم من البقر والغنم إلا الشحوم وهي الثروب وشحوم الكلى ‏{‏إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا‏}‏ إلا ما اشتمل على الظهور والجنوب من السَّحفة ‏{‏أَوِ الحوايا‏}‏ أو ما اشتمل على الأمعاء واحدها حاوياء أو حوية ‏{‏أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ‏}‏ وهو الألية أو المخ ‏{‏ذلك‏}‏ مفعول ثان لقوله ‏{‏جزيناهم‏}‏ والتقدير جزيناهم ذلك ‏{‏بِبَغْيِهِمْ‏}‏ بسبب ظلمهم ‏{‏وِإِنَّا لصادقون‏}‏ فيما أخبرنا به وكيف نشكر من سبب معصيتهم لتحريم الحلال ومعصية سالفنا لتحليل الحرام حيث قال‏:‏

‏{‏وعفا عنكم فالآن باشروهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ ‏{‏فَإِن كَذَّبُوكَ‏}‏ فيما أوحيت إليك من هذا ‏{‏فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسعة‏}‏ بها يمهل المكذبين ولا يعاجلهم بالعقوبة ‏{‏وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ‏}‏ عذابه مع سعة رحمته ‏{‏عَنِ القوم المجرمين‏}‏ إذا جاء فلا تغتر بسعة رحمته عن خوف نقمته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 157‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ‏(‏148‏)‏ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏149‏)‏ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏150‏)‏ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏151‏)‏ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏152‏)‏ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏153‏)‏ ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏154‏)‏ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏155‏)‏ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏156‏)‏ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ‏}‏ إخبار بما سوف يقولونه ‏{‏لَوْ شَآءَ الله‏}‏ أن لا نشرك ‏{‏مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ‏}‏ ولكن شاء فهذا عذرنا، يعنون أن شركهم وشرك آبائهم وتحريمهم ما أحل الله لهم بمشيئته ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك ‏{‏كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ أي كتكذيبهم إياك‏.‏ كان تكذيب المتقدمين رسلهم وتشبثوا بمثل هذا فلم ينفعهم ذلك إذ لم يقولوه عن اعتقاد بل قالوا ذلك استهزاء، ولأنهم جعلوا مشيئته حجة لهم على أنهم معذورون به وهذا مردود لا الإقرار بالمشيئة، أو معنى المشيئة هنا الرضا كما قال الحسن‏:‏ أي رضي الله منا ومن آبائنا الشرك والشرك مراد لكنه غير مرضي، ألا ترى أنه قال ‏{‏فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ أخبر أنه لو شاء منهم الهدى لآمن كلهم ولكن لم يشأ من الكل الإيمان بل شاء من البعض الإيمان ومن البعض الكفر، فيجب حمل المشيئة هنا على ما ذكرناه دفعاً للتناقض ‏{‏حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا‏}‏ حتى أنزلنا عليهم العذاب ‏{‏قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ‏}‏ من أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم ‏{‏فَتُخْرِجُوهُ لَنَا‏}‏ فتظهروه ‏{‏إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ‏}‏ تكذبون ‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة‏}‏ عليكم بأوامره ونواهيه ولا حجة لكم على الله بمشيئته ‏{‏فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ أي فلو شاء هدايتكم وبه تبطل صولة المعتزلة ‏{‏قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ‏}‏ هاتوا شهداءكم وقربوهم، ويستوي في هذه الكلمة الواحد والجمع والمذكر والمؤنث عند الحجازيين، وبنو تميم تؤنث وتجمع ‏{‏الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا‏}‏ أي ما زعموه محرماً ‏{‏فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ‏}‏ فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم فكان واحداً منهم ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الذين كَذَّبُواْ بآياتنا‏}‏ من وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن من كذب بآيات الله فهو متبع للهوى إذ لو تبع الدليل لم يكن إلا مصدقاً بالآيات موحداً لله ‏{‏والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة‏}‏ هم المشركون ‏{‏وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ يسوون الأصنام‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ للذين حرموا الحرث والأنعام ‏{‏تَعَالَوْاْ‏}‏ هو من الخاص الذي صار عاماً وأصله أن يقول‏:‏ من كان في مكان عالٍ لمن هو أسفل منه ثم كثر حتى عم ‏{‏أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ‏}‏ الذي حرمه ربكم ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ من صلة حرم ‏{‏أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً‏}‏ «أن» مفسرة لفعل التلاوة و«لا» للنهي ‏{‏وبالوالدين إِحْسَانًا‏}‏ وأحسنوا بالوالدين إحساناً‏.‏ ولما كان إيجاب الإحسان تحريماً لترك الإحسان ذكر في المحرمات وكذا حكم ما بعده من الأوامر ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أولادكم مِّنْ إملاق‏}‏ من أجل فقر ومن خشيته كقوله

‏{‏خَشْيَةَ إملاق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏ ‏{‏نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ‏}‏ لأن رزق العبيد على مولاهم ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا‏}‏ ما بينك وبين الخلق ‏{‏وَمَا بَطَنَ‏}‏ ما بينك وبين الله، ما ظهر بدل من الفواحش ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق‏}‏ كالقصاص والقتل على الردة والرجم ‏{‏ذلكم وصاكم بِهِ‏}‏ أي المذكور مفصلاً أمركم ربكم بحفظه ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ لتعقلوا عظمها عند الله ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ إلا بالخصلة التي هي أحسن وهي حفظه وتثميره ‏{‏حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏}‏ أشده مبلغ حلمه فادفعوه إليه وواحده شد كفلس وأفلس ‏{‏وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط‏}‏ بالسوية والعدل ‏{‏لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ إلا ما يسعها ولا تعجز عنه، وإنما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والميزان ذلك لأن مراعاة الحد من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما فيه حرج فأمر ببلوغ الوسع وأن ما وراءه معفو عنه ‏{‏وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا‏}‏ فاصدقوا ‏{‏وَلَوْ كَانَ ذَا قربى‏}‏ ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القائل كقوله ‏{‏وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏ ‏{‏وَبِعَهْدِ الله‏}‏ يوم الميثاق أو في الأمر والنهي والوعد والوعيد والنذر واليمين ‏{‏أَوْفُواْ ذلكم‏}‏ أي ما مر ‏{‏وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ بالتخفيف حيث كان‏:‏ حمزة وعلي وحفص على حذف إحدى التاءين‏.‏ غيرهم بالتشديد أصله «تتذكرون» فأدغم التاء الثانية في الذال أي أمركم به لتتعظوا‏.‏

‏{‏وَأَنَّ هذا صراطي‏}‏ ولأن هذا صراطي فهو علة الاتباع بتقدير اللام، ‏{‏وَأَنْ‏}‏ بالتخفيف شامي، وأصله وأنه على أن الهاء ضمير الشأن والحديث‏.‏ ‏{‏وَإنْ‏}‏ على الابتداء‏:‏ حمزة وعلي ‏{‏مُّسْتَقِيماً‏}‏ حال ‏{‏فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل‏}‏ الطرق المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات ‏{‏فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ فتفرقكم أيادي سبأ عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام‏.‏ رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط خطاً مستوياً ثم قال ‏"‏ هذا سبيل الرشد وصراط الله فاتبعوه ‏"‏ ثم خط على كل جانب ستة خطوط ممالة ثم قال ‏"‏ هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه فاجتنبوها ‏"‏ وتلا هذه الآية‏.‏ ثم يصير كل واحد من الاثني عشر طريقاً ستة طرق فتكون اثنين وسبعين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب‏.‏ وعن كعب‏:‏ إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة ‏{‏ذلكم وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ لتكونوا على رجاء إصابة التقوى‏.‏

ذكر أولاً ‏{‏تَعْقِلُونَ‏}‏ ثم ‏{‏تَذَكَّرُونَ‏}‏ ثم ‏{‏تَتَّقُونَ‏}‏ لأنهم إذا عقلوا تفكروا ثم تذكروا أي اتعظوا فاتقوا المحارم ‏{‏ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَامًا‏}‏ أي ثم أخبركم إنا آتينا أو هو عطف على ‏{‏قُلْ‏}‏ أي ثم قل آتينا، و«ثم» مع الجملة تأتي بمعنى الواو كقوله ‏{‏ثُمَّ الله شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 46‏]‏ ‏{‏عَلَى الذي أَحْسَنَ‏}‏ على من كان محسناً صالحاً يريد جنس المحسنين دليله قراءة عبد الله ‏{‏عَلَى الذين أَحْسَنُواْ‏}‏ أو أراد به موسى عليه السلام أي تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ في كل ما أمر به ‏{‏وَتَفْصِيلاً لّكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاجون إليه في دينهم ‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم‏}‏ أي بني إسرائيل ‏{‏بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يصدقون أي بالبعث والحساب وبالرؤية‏.‏

‏{‏وهذا‏}‏ أي القرآن ‏{‏كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ‏}‏ كثير الخير ‏{‏فاتبعوه واتقوا‏}‏ مخالفته ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ لترحموا ‏{‏أَن تَقُولُواْ‏}‏ كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا ‏{‏إِنَّمَا أُنزِلَ الكتاب على طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا‏}‏ أي أهل التوراة وأهل الإنجيل، وهذا دليل على أن المجوس ليسوا بأهل كتاب ‏{‏وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ‏}‏ عن تلاوة كتبهم ‏{‏لغافلين‏}‏ لا علم لنا بشيء من ذلك «إن» مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية والأصل‏:‏ وإنه كنا عن دراستهم غافلين على أن الهاء ضمير الشأن، والخطاب لأهل مكة والمراد إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كيلا يقولوا يوم القيامة‏:‏ إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا وكنا غافلين عما فيهما ‏{‏أَوْ تَقُولُواْ‏}‏ كراهة أن تقولوا ‏{‏لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ‏}‏ لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا وغزارة حفظنا لأيام العرب ‏{‏فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبِّكُمْ‏}‏ أي إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم فقد جاءكم ما فيه البيان الساطع والبرهان القاطع، فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف ‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله‏}‏ بعدما عرف صحتها وصدقها ‏{‏وَصَدَفَ عَنْهَا‏}‏ أعرض ‏{‏سَنَجْزِي الذين يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنَا سُوءَ العذاب‏}‏ وهو النهاية في النكاية ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ‏}‏ بإعراضهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏158- 165‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏158‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏159‏)‏ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏160‏)‏ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏161‏)‏ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏162‏)‏ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏163‏)‏ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏164‏)‏ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏165‏)‏‏}‏

‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ أي أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما يعتقدون من الضلالة فما ينتظرون في ترك الضلالة بعدها ‏{‏إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة‏}‏ أي ملائكة الموت لقبض أرواحهم ‏{‏يَأْتِيهِمُ‏}‏ حمزة وعلي ‏{‏أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ‏}‏ أي أمر ربك وهو العذاب أو القيامة، وهذا لأن الإتيان متشابه وإتيان أمره منصوص عليه محكم فيرد إليه ‏{‏أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءايات رَبِّكَ‏}‏ أي أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك ‏{‏يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءايات رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا‏}‏ لأنه ليس بإيمان اختياري بل هو إيمان دفع العذاب والبأس عن أنفسهم ‏{‏لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ‏}‏ صفة ‏{‏نَفْساً‏}‏ ‏{‏أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمانها خَيْرًا‏}‏ أي إخلاصاً كما لا يقبل إيمان الكافر بعد طلوع الشمس من مغربها لا يقبل إخلاص المنافق أيضاً أو توبته وتقديره‏:‏ لا ينفع إيمان من لم يؤمن ولا توبة من لم يتب قبل ‏{‏قُلِ انتظروا‏}‏ إحدى الآيات الثلاث ‏{‏إِنَّا مُنتَظِرُونَ‏}‏ بكم إحداها‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ‏}‏ اختلفوا فيه وساروا فرقاً كما اختلفت اليهود والنصارى وفي الحديث ‏"‏ افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية وإلا واحدة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وهي السواد الأعظم ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ وهي ما أنا عليه وأصحابي ‏"‏ وقيل‏:‏ فرقوا دينهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض‏.‏ ‏{‏فارقوا دِينَهُمُ‏}‏ حمزة وعلي أي تركوا ‏{‏وَكَانُواْ شِيَعاً‏}‏ فرقاً كل فرقة تشيع إماماً لها ‏{‏لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏ أي من السؤال عنهم وعن تفرقهم أو من عقابهم ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ فيجازيهم على ذلك ‏{‏مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا‏}‏ تقديره عشر حسنات أمثالها إلا أنه أقيم صفة الجنس المميزة مقام الموصوف ‏{‏وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ بنقص الثواب وزيادة العقاب ‏{‏قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبّي‏}‏ ‏{‏رَبّي‏}‏ أبو عمرو ومدني ‏{‏إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ دِينًا‏}‏ نصب على البدل من محل ‏{‏إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ لأن معناه هداني صراطاً بدليل قوله ‏{‏وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 20‏]‏ ‏(‏قِيِّماً‏)‏ «قيما» فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من القائم ‏{‏قَيِّماً‏}‏ كوفي وشامي وهو مصدر بمعنى القيام وصف به ‏{‏مِلَّةِ إبراهيم‏}‏ عطف بيان ‏{‏حَنِيفاً‏}‏ حال من ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏{‏وَمَا كَانَ مِنَ المشركين‏}‏ بالله يا معشر قريش‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي‏}‏ أي عبادتي، والناسك العابد أو ذبحي أو حجي ‏{‏وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي‏}‏ وما أتيته في حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل ‏{‏للَّهِ رَبِّ العالمين‏}‏ خالصة لوجهه‏.‏

‏{‏وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي‏}‏ بسكون الياء الأول وفتح الثاني‏:‏ مدني‏.‏ وبعكسه غيره ‏{‏لاَ شَرِيكَ لَهُ‏}‏ في شيء من ذلك ‏{‏وبذلك‏}‏ الإخلاص ‏{‏أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين‏}‏ لأن إسلام كل نبيٍ متقدم على إسلام أمته‏.‏

‏{‏قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً‏}‏ جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم‏.‏ والهمزة للإنكار أي منكر أن أطلب رباً غيره، وتقديم المفعول للإشعار بأنه أهم ‏{‏وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ وكل من دونه مربوب ليس في الوجود من له الربوبية غيره ‏{‏وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا‏}‏ جواب عن قولهم ‏{‏اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خطاياكم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 12‏]‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ أي لا تأخذ نفس آثمة بذنب نفس أخرى ‏{‏ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏ من الأديان التي فرقتموها ‏{‏وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خلائف الأرض‏}‏ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فأمته قد خلفت سائر الأمم، أو لأن بعضهم يخلف بعضاً أو هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها ‏{‏وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ‏}‏ في الشرف والرزق وغير ذلك ‏{‏درجات‏}‏ مفعول ثانٍ، أو التقدير إلى درجات، أو هي واقعة موضع المصدر كأنه قيل رفعة بعد رفعة ‏{‏لّيَبْلُوَكُمْ فِى ما آتاكم‏}‏ فيما أعطاكم من نعمة الجاه والمال كيف تشكرون تلك النعمة وكيف يصنع الشريف بالوضيع والغني بالفقير والمالك بالمملوك ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب‏}‏ لمن كفر ‏{‏وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ لمن قام بشكرها، ووصف العقاب بالسرعة لأن ما هو آتٍ قريب ‏{‏وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 77‏]‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ ثلاث آيات من أول الأنعام حين يصبح وكل الله تعالى به سبعين ألف ملك يحفظونه وكتب له مثل أعمالهم إلى يوم القيامة»‏.‏